اختيار تصميم الجوال
|
|
|
« آخـــر الـــمـــشـــاركــــات » |
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
23-Mar-2012, 10:01 PM | رقم المشاركة : 1 | |||
|
[سلسلة ] زاد المعاد في هدي خير العباد - لبن القيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أخواني وأحبتي سنتناول في متصفحنا هذا كتاب زاد المعاد في هدي خير العباد الذي ألفه الإمام شمس الدين أبي عبد الله ابن القيم الجوزية من اروع الكتب التي تناولت سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم سيكون هذا المتصفح اشبه بحلقة علم كل يوم نأخذ جزء من هذا الكتاب حتى نتعلم سيرة حبيبنا صلى الله عليه وسلم اسئل الله ان يتقبل هذا العمل منا وأن يصلح نياتنا واقوالنا واعمالنا آخر تعديل أبو نوآف الجـذع يوم 23-Mar-2012 في 10:08 PM.
|
|||
|
|
23-Mar-2012, 10:05 PM | رقم المشاركة : 2 | |||
|
مقدمة الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
حسبي الله ونعم الوكيل مقدمة المؤلف الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، ولا إله إلا الله إله الأولين والآخرين ، وقيوم السماوات والأرضين ومالك يوم الدين الذي لا فوز إلا في طاعته ، ولا عز إلا في التذلل لعظمته ، ولا غنى إلا في الافتقار إلى رحمته ، ولا هدى إلا في الاستهداء بنوره ، ولا حياة إلا في رضاه ، ولا نعيم إلا في قربه ، ولا صلاح للقلب ولا فلاح إلا في الإخلاص له وتوحيد حبه ، الذي إذا أطيع شكر ، وإذا عصي تاب وغفر ، وإذا دعي أجاب ، وإذا عومل أثاب . والحمد لله الذي شهدت له بالربوبية جميع مخلوقاته ، وأقرت له بالإلهية جميع مصنوعاته ، وشهدت بأنه الله الذي لا إله إلا هو بما أودعها من عجائب صنعته ، وبدائع آياته ، وسبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته . ولا إله إلا الله وحده ، لا شريك له في إلهيته ، كما لا شريك له في ربوبيته ، ولا شبيه له في ذاته ولا في أفعاله ولا في صفاته ، والله أكبر كبيرا ، والحمد لله كثيرا ، وسبحان الله بكرة وأصيلا ، وسبحان من سبحت له السماوات وأملاكها ، والنجوم وأفلاكها ، والأرض وسكانها ، والبحار وحيتانها ، والنجوم والجبال والشجر والدواب والآكام والرمال ، وكل رطب ويابس [ ص: 36 ] ، وكل حي وميت ( تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا ) [ الإسراء : 44 ] . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، كلمة قامت بها الأرض والسماوات ، وخلقت لأجلها جميع المخلوقات ، وبها أرسل الله تعالى رسله ، وأنزل كتبه ، وشرع شرائعه ، ولأجلها نصبت الموازين ، ووضعت الدواوين ، وقام سوق الجنة والنار ، وبها انقسمت الخليقة إلى المؤمنين والكفار والأبرار والفجار ، فهي منشأ الخلق والأمر والثواب والعقاب ، وهي الحق الذي خلقت له الخليقة ، وعنها وعن حقوقها السؤال والحساب ، وعليها يقع الثواب والعقاب ، وعليها نصبت القبلة ، وعليها أسست الملة ، ولأجلها جردت سيوف الجهاد ، وهي حق الله على جميع العباد ، فهي كلمة الإسلام ، ومفتاح دار السلام ، وعنها يسأل الأولون والآخرون ، فلا تزول قدما العبد بين يدي الله حتى يسأل عن مسألتين : ماذا كنتم تعبدون ؟ وماذا أجبتم المرسلين ؟ . فجواب الأولى بتحقيق " لا إله إلا الله " معرفة وإقرارا وعملا . وجواب الثانية بتحقيق " أن محمدا رسول الله " معرفة وإقرارا وانقيادا وطاعة . وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وأمينه على وحيه ، وخيرته من خلقه ، وسفيره بينه وبين عباده ، المبعوث بالدين القويم والمنهج المستقيم ، أرسله الله رحمة للعالمين ، وإماما للمتقين ، وحجة على الخلائق أجمعين . أرسله على حين فترة من الرسل فهدى به إلى أقوم الطرق وأوضح السبل ، وافترض على العباد طاعته وتعزيره وتوقيره ومحبته والقيام بحقوقه ، وسد دون جنته الطرق ، فلن [ ص: 37 ] تفتح لأحد إلا من طريقه ، فشرح له صدره ، ورفع له ذكره ، ووضع عنه وزره ، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره . ففي " المسند " من حديث أبي منيب الجرشي ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له ، وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري ، ومن تشبه بقوم فهو منهم ) وكما أن الذلة مضروبة على من خالف أمره ، فالعزة لأهل طاعته ومتابعته ، قال الله سبحانه : ( ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ) [ آل عمران : 139 ] . وقال تعالى : ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ) [ المنافقون : 8 ] . وقال تعالى : ( فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ) [ محمد : 35 ] . وقال تعالى : ( ياأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ) [ الأنفال : 64 ] . أي : الله وحده كافيك ، وكافي أتباعك ، فلا تحتاجون معه إلى أحد . وهنا تقديران ، أحدهما : أن تكون الواو عاطفة لـ" من " على الكاف المجرورة ، ويجوز العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار على المذهب المختار ، وشواهده كثيرة وشبه المنع منه واهية . والثاني : أن تكون الواو واو " مع " وتكون " من " في محل نصب عطفا على الموضع ، فإن " حسبك " في معنى " كافيك " أي الله يكفيك ويكفي من اتبعك كما تقول العرب : حسبك وزيدا درهم ، قال الشاعر : إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا فحسبك والضحاك سيف مهند [ ص: 38 ] وهذا أصح التقديرين . وفيها تقدير ثالث : أن تكون " من " في موضع رفع بالابتداء ، أي : ومن اتبعك من المؤمنين فحسبهم الله . وفيها تقدير رابع ، وهو خطأ من جهة المعنى : وهو أن تكون " من " في موضع رفع عطفا على اسم الله ، ويكون المعنى : حسبك الله وأتباعك ، وهذا وإن قاله بعض الناس فهو خطأ محض لا يجوز حمل الآية عليه ، فإن " الحسب " و" الكفاية " لله وحده ، كالتوكل والتقوى والعبادة ، قال الله تعالى : ( وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين ) [ الأنفال : 62 ] . ففرق بين الحسب والتأييد ، فجعل الحسب له وحده ، وجعل التأييد له بنصره وبعباده ، وأثنى الله سبحانه على أهل التوحيد والتوكل من عباده حيث أفردوه بالحسب ، فقال تعالى : ( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ) [ آل عمران : 173 ] . ولم يقولوا : حسبنا الله ورسوله ، فإذا كان هذا قولهم ، ومدح الرب تعالى لهم بذلك ، فكيف يقول لرسوله : الله وأتباعك حسبك ، وأتباعه قد أفردوا الرب تعالى بالحسب ، ولم يشركوا بينه وبين رسوله فيه ، فكيف يشرك بينهم وبينه في حسب رسوله ؟! هذا من أمحل المحال وأبطل الباطل ، ونظير هذا قوله تعالى : ( ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون ) [ التوبة : 59 ] . فتأمل كيف جعل الإيتاء لله ولرسوله كما قال تعالى: ( وما آتاكم الرسول فخذوه ) [ الحشر : 7 ] . وجعل الحسب له وحده ، فلم يقل : وقالوا : حسبنا الله ورسوله ، بل جعله خالص حقه ، كما قال تعالى : ( إنا إلى الله راغبون ) [ التوبة : 59 ] . ولم يقل : وإلى رسوله ، بل جعل الرغبة إليه وحده ، كما قال تعالى : ( فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب ) [ الانشراح : 7 - 8 ] . فالرغبة والتوكل والإنابة والحسب لله وحده ، كما أن العبادة والتقوى والسجود لله وحده ، والنذر والحلف لا يكون إلا لله سبحانه [ ص: 39 ] وتعالى . ونظير هذا قوله تعالى : ( أليس الله بكاف عبده ) [ الزمر : 36 ] . فالحسب : هو الكافي ، فأخبر سبحانه وتعالى أنه وحده كاف عبده ، فكيف يجعل أتباعه مع الله في هذه الكفاية ؟! والأدلة الدالة على بطلان هذا التأويل الفاسد أكثر من أن تذكر هاهنا . والمقصود أن بحسب متابعة الرسول تكون العزة والكفاية والنصرة ، كما أن بحسب متابعته تكون الهداية والفلاح والنجاة ، فالله سبحانه علق سعادة الدارين بمتابعته ، وجعل شقاوة الدارين في مخالفته ، فلأتباعه الهدى والأمن والفلاح والعزة والكفاية والنصرة والولاية والتأييد وطيب العيش في الدنيا والآخرة ، ولمخالفيه الذلة والصغار والخوف والضلال والخذلان والشقاء في الدنيا والآخرة . وقد أقسم صلى الله عليه وسلم بأن ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هو أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ) وأقسم الله سبحانه بأن لا يؤمن من لا يحكمه في كل ما تنازع فيه هو وغيره ، ثم يرضى بحكمه ، ولا يجد في نفسه حرجا مما حكم به ، ثم يسلم له تسليما وينقاد له انقيادا . وقال تعالى: ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) [ ص: 40 ] ( [ الأحزاب : 36 ] . فقطع سبحانه وتعالى التخيير بعد أمره وأمر رسوله ، فليس لمؤمن أن يختار شيئا بعد أمره صلى الله عليه وسلم ، بل إذا أمر فأمره حتم ، وإنما الخيرة في قول غيره إذا خفي أمره وكان ذلك الغير من أهل العلم به وبسنته ، فبهذه الشروط يكون قول غيره سائغ الاتباع ، لا واجب الاتباع ، فلا يجب على أحد اتباع قول أحد سواه ، بل غايته أنه يسوغ له اتباعه ، ولو ترك الأخذ بقول غيره لم يكن عاصيا لله ورسوله . فأين هذا ممن يجب على جميع المكلفين اتباعه ، ويحرم عليهم مخالفته ، ويجب عليهم ترك كل قول لقوله ؟ فلا حكم لأحد معه ، ولا قول لأحد معه ، كما لا تشريع لأحد معه ، وكل من سواه ، فإنما يجب اتباعه على قوله إذا أمر بما أمر به ، ونهى عما نهى عنه ، فكان مبلغا محضا ومخبرا لا منشئا ومؤسسا ، فمن أنشأ أقوالا وأسس قواعد بحسب فهمه وتأويله لم يجب على الأمة اتباعها ، ولا التحاكم إليها حتى تعرض على ما جاء به الرسول ، فإن طابقته ووافقته وشهد لها بالصحة قبلت حينئذ ، وإن خالفته وجب ردها واطراحها ، فإن لم يتبين فيها أحد الأمرين جعلت موقوفة ، وكان أحسن أحوالها أن يجوز الحكم والإفتاء بها وتركه ، وأما أنه يجب ويتعين فكلا ولما. وبعد ، فإن الله سبحانه وتعالى هو المنفرد بالخلق والاختيار من المخلوقات ، قال الله تعالى: ( وربك يخلق ما يشاء ويختار ) [ القصص : 68 ] . وليس المراد هاهنا بالاختيار الإرادة التي يشير إليها المتكلمون بأنه الفاعل المختار - وهو سبحانه - كذلك ، ولكن ليس المراد بالاختيار هاهنا هذا المعنى ، وهذا الاختيار داخل في قوله : ( يخلق ما يشاء ) فإنه لا يخلق إلا باختياره ، وداخل في قوله تعالى : ( ما يشاء ) فإن المشيئة هي الاختيار ، وإنما المراد بالاختيار هاهنا : الاجتباء والاصطفاء ، فهو اختيار بعد الخلق ، والاختيار العام اختيار قبل الخلق ، فهو أعم وأسبق ، وهذا أخص ، وهو متأخر ، فهو اختيار من الخلق ، والأول اختيار للخلق . وأصح القولين أن الوقف التام على قوله : ( ويختار ) . [ ص: 41 ] ويكون ( ما كان لهم الخيرة ) نفيا ، أي : ليس هذا الاختيار إليهم ، بل هو إلى الخالق وحده ، فكما أنه المنفرد بالخلق فهو المنفرد بالاختيار منه ، فليس لأحد أن يخلق ولا أن يختار سواه ، فإنه سبحانه أعلم بمواقع اختياره ، ومحال رضاه ، وما يصلح للاختيار مما لا يصلح له ، وغيره لا يشاركه في ذلك بوجه . وذهب بعض من لا تحقيق عنده ولا تحصيل إلى أن " ما " في قوله تعالى : ( ما كان لهم الخيرة ) موصولة ، وهي مفعول " ويختار " أي : ويختار الذي لهم الخيرة ، وهذا باطل من وجوه . أحدها : أن الصلة حينئذ تخلو من العائد ؛ لأن " الخيرة " مرفوع بأنه اسم " كان " والخبر " لهم " ، فيصير المعنى : ويختار الأمر الذي كان الخيرة لهم ، وهذا التركيب محال من القول . فإن قيل : يمكن تصحيحه بأن يكون العائد محذوفا ، ويكون التقدير : ويختار الذي كان لهم الخيرة فيه ، أي ويختار الأمر الذي كان لهم الخيرة في اختياره . قيل : هذا يفسد من وجه آخر ، وهو أن هذا ليس من المواضع التي يجوز فيها حذف العائد ، فإنه إنما يحذف مجرورا إذا جر بحرف جر الموصول بمثله مع اتحاد المعنى ، نحو قوله تعالى: ( يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ) [ المؤمنون : 33 ] ونظائره ، ولا يجوز أن يقال : جاءني الذي مررت ، ورأيت الذي رغبت ، ونحوه . الثاني : أنه لو أريد هذا المعنى لنصب " الخيرة " وشغل فعل الصلة بضمير يعود على الموصول ، فكأنه يقول : ويختار ما كان لهم الخيرة ، أي : الذي كان هو عين الخيرة لهم ، وهذا لم يقرأ به أحد البتة ، مع أنه كان وجه الكلام على هذا التقدير . الثالث : أن الله سبحانه يحكي عن الكفار اقتراحهم في الاختيار ، وإرادتهم [ ص: 42 ] أن تكون الخيرة لهم ، ثم ينفي هذا سبحانه عنهم ، ويبين تفرده هو بالاختيار ، كما قال تعالى : ( وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون ) [ الزخرف : 31 - 32 ] ، فأنكر عليهم سبحانه تخيرهم عليه ، وأخبر أن ذلك ليس إليهم ، بل إلى الذي قسم بينهم معايشهم المتضمنة لأرزاقهم ومدد آجالهم ، وكذلك هو الذي يقسم فضله بين أهل الفضل على حسب علمه بمواقع الاختيار ، ومن يصلح له ممن لا يصلح ، وهو الذي رفع بعضهم فوق بعض درجات ، وقسم بينهم معايشهم ودرجات التفضيل ، فهو القاسم ذلك وحده لا غيره ، وهكذا هذه الآية بين فيها انفراده بالخلق والاختيار ، وأنه سبحانه أعلم بمواقع اختياره ، كما قال تعالى: ( وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته ) [ الأنعام : 124 ] ، أي : الله أعلم بالمحل الذي يصلح لاصطفائه وكرامته وتخصيصه بالرسالة والنبوة دون غيره . الرابع : أنه نزه نفسه سبحانه عما اقتضاه شركهم من اقتراحهم واختيارهم فقال : ( ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون ) [ القصص : 68 ] ولم يكن شركهم مقتضيا لإثبات خالق سواه حتى نزه نفسه عنه ، فتأمله فإنه في غاية اللطف . الخامس : أن هذا نظير قوله تعالى في [ الحج : 73 - 76 ] : ( إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز ) ثم قال : ( الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور ) وهذا نظير قوله في [ القصص : 69 ] ( وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون ) ونظير قوله في [ الأنعام : 124 ] ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) فأخبر في ذلك كله عن علمه [ ص: 43 ] المتضمن لتخصيصه محال اختياره بما خصصها به ، لعلمه بأنها تصلح له دون غيرها ، فتدبر السياق في هذه الآيات تجده متضمنا لهذا المعنى ، زائدا عليه ، والله أعلم . السادس : أن هذه الآية مذكورة عقيب قوله : ( ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين وربك يخلق ما يشاء ويختار ) [ القصص : 65 - 68 ] فكما خلقهم وحده سبحانه ، اختار منهم من تاب وآمن وعمل صالحا ، فكانوا صفوته من عباده ، وخيرته من خلقه ، وكان هذا الاختيار راجعا إلى حكمته وعلمه سبحانه لمن هو أهل له ، لا إلى اختيار هؤلاء المشركين واقتراحهم ، فسبحان الله وتعالى عما يشركون . |
|||
|
|
23-Mar-2012, 10:14 PM | رقم المشاركة : 3 | |||
|
فصل فيما اختاره الله من الأعمال وغيرها
(1) فصل فيما اختاره الله من الأعمال وغيرها والمقصود أن الله سبحانه وتعالى اختار من كل جنس من أجناس المخلوقات أطيبه ، واختصه لنفسه وارتضاه دون غيره ، فإنه تعالى طيب لا يحب إلا الطيب ، ولا يقبل من العمل والكلام والصدقة إلا الطيب ، فالطيب من كل شيء هو مختاره تعالى . وأما خلقه تعالى فعام للنوعين ، وبهذا يعلم عنوان سعادة العبد وشقاوته ، فإن الطيب لا يناسبه إلا الطيب ولا يرضى إلا به ، ولا يسكن إلا إليه ، ولا يطمئن قلبه إلا به ، فله من الكلام الكلم الطيب الذي لا يصعد إلى الله تعالى إلا هو ، وهو أشد شيء نفرة عن الفحش في المقال ، والتفحش في اللسان والبذاء والكذب والغيبة والنميمة والبهت وقول الزور وكل كلام خبيث . وكذلك لا يألف من الأعمال إلا أطيبها ، وهي الأعمال التي اجتمعت على حسنها الفطر السليمة مع الشرائع النبوية ، وزكتها العقول الصحيحة ، فاتفق على حسنها الشرع والعقل والفطرة ، مثل أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا ، ويؤثر مرضاته على هواه ، ويتحبب إليه جهده وطاقته ، ويحسن إلى خلقه ما استطاع ، فيفعل بهم ما يحب أن يفعلوا به ، ويعاملوه به ، ويدعهم مما يحب أن يدعوه منه ، وينصحهم بما ينصح به نفسه ، ويحكم لهم بما يحب أن يحكم له به ، ويحمل أذاهم ولا يحملهم أذاه ، ويكف عن أعراضهم ولا يقابلهم بما نالوا من عرضه ، وإذا رأى لهم حسنا أذاعه ، وإذا رأى لهم سيئا كتمه ، ويقيم أعذارهم ما استطاع فيما لا يبطل شريعة ، ولا يناقض لله أمرا ولا نهيا . [ ص: 66 ] وله أيضا من الأخلاق أطيبها وأزكاها ، كالحلم والوقار والسكينة والرحمة والصبر والوفاء ، وسهولة الجانب ولين العريكة والصدق ، وسلامة الصدر من الغل والغش والحقد والحسد ، والتواضع وخفض الجناح لأهل الإيمان ، والعزة والغلظة على أعداء الله ، وصيانة الوجه عن بذله وتذلله لغير الله ، والعفة والشجاعة والسخاء والمروءة ، وكل خلق اتفقت على حسنه الشرائع والفطر والعقول . وكذلك لا يختار من المطاعم إلا أطيبها ، وهو الحلال الهنيء المريء الذي يغذي البدن والروح أحسن تغذية ، مع سلامة العبد من تبعته . وكذلك لا يختار من المناكح إلا أطيبها وأزكاها ، ومن الرائحة إلا أطيبها وأزكاها ، ومن الأصحاب والعشراء إلا الطيبين منهم ، فروحه طيب ، وبدنه طيب ، وخلقه طيب وعمله طيب ، وكلامه طيب ، ومطعمه طيب ، ومشربه طيب ، وملبسه طيب ، ومنكحه طيب ، ومدخله طيب ، ومخرجه طيب ، ومنقلبه طيب ، ومثواه كله طيب . فهذا ممن قال الله تعالى فيه : ( الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ) [ النحل : 32 ] ومن الذين يقول لهم خزنة الجنة : ( سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ) [ الزمر : 72 ] وهذه الفاء تقتضي السببية ، أي : بسبب طيبكم ادخلوها . وقال تعالى : ( الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات ) [ النور : 26 ] ، وقد فسرت الآية بأن الكلمات الخبيثات للخبيثين والكلمات الطيبات للطيبين ، وفسرت بأن النساء الطيبات للرجال الطيبين ، والنساء الخبيثات للرجال الخبيثين ، وهي تعم ذلك وغيره ، فالكلمات والأعمال والنساء الطيبات لمناسبها من الطيبين ، والكلمات والأعمال والنساء الخبيثة لمناسبها من الخبيثين ، فالله سبحانه وتعالى جعل الطيب بحذافيره في الجنة ، وجعل الخبيث بحذافيره في النار ، فجعل الدور ثلاثة : دارا أخلصت للطيبين ، وهي حرام على غير الطيبين ، وقد جمعت كل طيب وهي الجنة . ودارا أخلصت للخبيث والخبائث [ ص: 67 ] ولا يدخلها إلا الخبيثون وهي النار . ودارا امتزج فيها الطيب والخبيث وخلط بينهما وهي هذه الدار ؛ ولهذا وقع الابتلاء والمحنة بسبب هذا الامتزاج والاختلاط ، وذلك بموجب الحكمة الإلهية ، فإذا كان يوم معاد الخليقة ميز الله الخبيث من الطيب ، فجعل الطيب وأهله في دار على حدة لا يخالطهم غيرهم ، وجعل الخبيث وأهله في دار على حدة لا يخالطهم غيرهم ، فعاد الأمر إلى دارين فقط : الجنة وهي دار الطيبين ، والنار وهي دار الخبيثين ، وأنشأ الله تعالى من أعمال الفريقين ثوابهم وعقابهم ، فجعل طيبات أقوال هؤلاء وأعمالهم وأخلاقهم هي عين نعيمهم ولذاتهم ، أنشأ لهم منها أكمل أسباب النعيم والسرور ، وجعل خبيثات أقوال الآخرين وأعمالهم وأخلاقهم هي عين عذابهم وآلامهم ، فأنشأ لهم منها أعظم أسباب العقاب والآلام حكمة بالغة وعزة باهرة قاهرة ليري عباده كمال ربوبيته وكمال حكمته وعلمه وعدله ورحمته ، وليعلم أعداؤه أنهم كانوا هم المفترين الكذابين لا رسله البررة الصادقون ، قال الله تعالى : ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين ) [ النحل : 38-39 ] . والمقصود أن الله - سبحانه وتعالى - جعل للسعادة والشقاوة عنوانا يعرفان به ، فالسعيد الطيب لا يليق به إلا طيب ، ولا يأتي إلا طيبا ، ولا يصدر منه إلا طيب ، ولا يلابس إلا طيبا ، والشقي الخبيث لا يليق به إلا الخبيث ، ولا يأتي إلا خبيثا ، ولا يصدر منه إلا الخبيث ، فالخبيث يتفجر من قلبه الخبث على لسانه وجوارحه ، والطيب يتفجر من قلبه الطيب على لسانه وجوارحه . وقد يكون في الشخص مادتان فأيهما غلب عليه كان من أهلها ، فإن أراد الله به خيرا طهره من المادة الخبيثة قبل الموافاة ، فيوافيه يوم القيامة مطهرا فلا يحتاج إلى تطهيره بالنار فيطهره منها بما يوفقه له من التوبة النصوح ، والحسنات الماحية ، والمصائب المكفرة ، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة ، ويمسك عن الآخر مواد [ ص: 68 ] التطهير ، فيلقاه يوم القيامة بمادة خبيثة ومادة طيبة ، وحكمته تعالى تأبى أن يجاوره أحد في داره بخبائثه فيدخله النار طهرة له وتصفية وسبكا ، فإذا خلصت سبيكة إيمانه من الخبث صلح حينئذ لجواره ومساكنة الطيبين من عباده . وإقامة هذا النوع من الناس في النار على حسب سرعة زوال تلك الخبائث منهم وبطئها ، فأسرعهم زوالا وتطهيرا أسرعهم خروجا ، وأبطؤهم أبطؤهم خروجا ، ( جزاء وفاقا ) ( وما ربك بظلام للعبيد ) . ولما كان المشرك خبيث العنصر خبيث الذات لم تطهر النار خبثه ، بل لو خرج منها لعاد خبيثا كما كان ، كالكلب إذا دخل البحر ثم خرج منه ، فلذلك حرم الله تعالى على المشرك الجنة . ولما كان المؤمن الطيب المطيب مبرءا من الخبائث كانت النار حراما عليه ، إذ ليس فيه ما يقتضي تطهيره بها ، فسبحان من بهرت حكمته العقول والألباب ، وشهدت فطر عباده وعقولهم بأنه أحكم الحاكمين ورب العالمين لا إله إلا هو . نكتفي اليوم بهذا الدرس وبإذن الله يكون لنا لقاء بالغد |
|||
|
|
27-Mar-2012, 12:53 PM | رقم المشاركة : 5 | |||||
|
بارك الله فيك
|
|||||
|
|
28-Mar-2012, 09:38 PM | رقم المشاركة : 6 | |||
|
حياكم الباريء
واعتذر عن الانقطاع وهأنا ولله الحمد اعود لكم وبإذن الله سنكمل مانستطيع أن نكمله من هذا الكتاب القيم لشيخنا العلامه بن القيم |
|||
|
|
28-Mar-2012, 09:44 PM | رقم المشاركة : 7 | |||
|
فصل في نسبه صلى الله عليه وسلم
(2) فصل في نسبه صلى الله عليه وسلم نسبه صلى الله عليه وسلم وهو خير أهل الأرض نسبا على الإطلاق ، فلنسبه من الشرف أعلى ذروة ، وأعداؤه كانوا يشهدون له بذلك ، ولهذا شهد له به عدوه إذ ذاك أبو سفيان بين يدي ملك الروم ، فأشرف القوم قومه ، وأشرف القبائل قبيلته ، وأشرف الأفخاذ فخذه . فهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان . إلى هاهنا معلوم الصحة متفق عليه بين النسابين ، ولا خلاف فيه البتة ، وما فوق " عدنان " مختلف فيه . ولا خلاف بينهم أن " عدنان " من ولد إسماعيل [ ص: 71 ] عليه السلام ، وإسماعيل : هو الذبيح على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم . وأما القول بأنه إسحاق فباطل بأكثر من عشرين وجها ، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- يقول : هذا القول إنما هو متلقى عن أهل الكتاب ، مع أنه باطل بنص كتابهم ، فإن فيه : إن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه بكره ، وفي لفظ : وحيده ، ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده ، والذي غر أصحاب هذا القول أن في التوراة التي بأيديهم : اذبح ابنك إسحاق ، قال : وهذه الزيادة من تحريفهم وكذبهم لأنها تناقض قوله : اذبح بكرك ووحيدك ، ولكن اليهود حسدت بني إسماعيل على هذا الشرف وأحبوا أن يكون لهم ، وأن يسوقوه إليهم ويحتازوه لأنفسهم دون العرب ، ويأبى الله إلا أن يجعل فضله لأهله . وكيف يسوغ أن يقال : إن الذبيح إسحاق ، والله تعالى قد بشر أم إسحاق به وبابنه يعقوب ، فقال تعالى عن الملائكة : إنهم قالوا لإبراهيم لما أتوه بالبشرى : ( لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ) [ هود : 70 - 71 ] فمحال أن يبشرها بأنه يكون لها ولد ثم يأمر بذبحه ، ولا ريب أن يعقوب رضي الله عنه داخل في البشارة ، فتناول البشارة لإسحاق ويعقوب في اللفظ واحد ، وهذا ظاهر الكلام وسياقه . فإن قيل : لو كان الأمر كما ذكرتموه لكان " يعقوب " مجرورا عطفا على [ ص: 72 ] إسحاق ، فكانت القراءة ( ومن وراء إسحاق يعقوب ) أي : ويعقوب من وراء إسحاق . قيل لا يمنع الرفع أن يكون يعقوب مبشرا به ؛ لأن البشارة قول مخصوص ، وهي أول خبر سار صادق . وقوله تعالى : ( ومن وراء إسحاق يعقوب ) جملة متضمنة لهذه القيود ، فتكون بشارة ، بل حقيقة البشارة هي الجملة الخبرية . ولما كانت البشارة قولا كان موضع هذه الجملة نصبا على الحكاية بالقول ، كأن المعنى : وقلنا لها : من وراء إسحاق يعقوب ، والقائل إذا قال : بشرت فلانا بقدوم أخيه وثقله في أثره لم يعقل منه إلا بشارته بالأمرين جميعا . هذا مما لا يستريب ذو فهم فيه البتة ، ثم يضعف الجر أمر آخر وهو ضعف قولك : مررت بزيد ومن بعده عمرو ، ولأن العاطف يقوم مقام حرف الجر ، فلا يفصل بينه وبين المجرور ، كما لا يفصل بين حرف الجر والمجرور . ويدل عليه أيضا أن الله سبحانه لما ذكر قصة إبراهيم وابنه الذبيح في سورة ( الصافات ) قال : ( فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن ياإبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين ) [ الصافات : 103 - 111 ] . ثم قال تعالى : ( وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين ) [ الصافات : 112 ] . فهذه بشارة من الله تعالى له شكرا على صبره على ما أمر به ، وهذا ظاهر جدا في أن المبشر به غير الأول ، بل هو كالنص فيه . فإن قيل : فالبشارة الثانية وقعت على نبوته ، أي لما صبر الأب على ما أمر به وأسلم الولد لأمر الله جازاه الله على ذلك بأن أعطاه النبوة . قيل : البشارة وقعت على المجموع : على ذاته ووجوده ، وأن يكون نبيا ، ولهذا نصب " نبيا " على الحال المقدر ، أي : مقدرا نبوته ، فلا يمكن إخراج البشارة أن تقع على الأصل ، ثم تخص بالحال التابعة الجارية مجرى الفضلة ، هذا محال من الكلام ، بل إذا وقعت البشارة على نبوته فوقوعها على وجوده أولى وأحرى . [ ص: 73 ] وأيضا فلا ريب أن الذبيح كان بمكة ، ولذلك جعلت القرابين يوم النحر بها ، كما جعل السعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار تذكيرا لشأن إسماعيل وأمه ، وإقامة لذكر الله ، ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة دون إسحاق وأمه ، ولهذا اتصل مكان الذبح وزمانه بالبيت الحرام الذي اشترك في بنائه إبراهيم وإسماعيل ، وكان النحر بمكة من تمام حج البيت الذي كان على يد إبراهيم وابنه إسماعيل زمانا ومكانا ، ولو كان الذبح بالشام كما يزعم أهل الكتاب ومن تلقى عنهم لكانت القرابين والنحر بالشام لا بمكة . وأيضا فإن الله سبحانه سمى الذبيح حليما ؛ لأنه لا أحلم ممن أسلم نفسه للذبح طاعة لربه . ولما ذكر إسحاق سماه عليما ، فقال تعالى : ( هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون ) الذاريات : 24 - 25 ] إلى أن قال : ( قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم ) [ الذاريات : 28 ] وهذا إسحاق بلا ريب لأنه من امرأته ، وهي المبشرة به ، وأما إسماعيل فمن السرية ، وأيضا فإنهما بشرا به على الكبر واليأس من الولد ، وهذا بخلاف إسماعيل ، فإنه ولد قبل ذلك . وأيضا فإن الله سبحانه أجرى العادة البشرية أن بكر الأولاد أحب إلى الوالدين ممن بعده ، وإبراهيم عليه السلام لما سأل ربه الولد ووهبه له تعلقت شعبة من قلبه بمحبته ، والله تعالى قد اتخذه خليلا ، والخلة منصب يقتضي توحيد المحبوب بالمحبة ، وأن لا يشارك بينه وبين غيره فيها ، فلما أخذ الولد شعبة من قلب الوالد جاءت غيرة الخلة تنتزعها من قلب الخليل ، فأمره بذبح المحبوب ، فلما أقدم على ذبحه وكانت محبة الله أعظم عنده من محبة الولد خلصت الخلة حينئذ من شوائب المشاركة ، فلم يبق في الذبح مصلحة ، إذ كانت المصلحة إنما هي في العزم وتوطين النفس عليه ، فقد حصل المقصود فنسخ الأمر وفدي الذبيح ، وصدق الخليل الرؤيا ، وحصل مراد الرب . [ ص: 74 ] ومعلوم أن هذا الامتحان والاختبار إنما حصل عند أول مولود ، ولم يكن ليحصل في المولود الآخر دون الأول ، بل لم يحصل عند المولود الآخر من مزاحمة الخلة ما يقتضي الأمر بذبحه ، وهذا في غاية الظهور . وأيضا فإن سارة امرأة الخليل صلى الله عليه وسلم غارت من هاجر وابنها أشد الغيرة ، فإنها كانت جارية ، فلما ولدت إسماعيل وأحبه أبوه اشتدت غيرة " سارة " فأمر الله سبحانه أن يبعد عنها " هاجر " وابنها ويسكنها في أرض مكة لتبرد عن " سارة " حرارة الغيرة ، وهذا من رحمته تعالى ورأفته ، فكيف يأمره سبحانه بعد هذا أن يذبح ابنها ويدع ابن الجارية بحاله ، هذا مع رحمة الله لها وإبعاد الضرر عنها وجبره لها ، فكيف يأمر بعد هذا بذبح ابنها دون ابن الجارية ، بل حكمته البالغة اقتضت أن يأمر بذبح ولد السرية ، فحينئذ يرق قلب السيدة عليها وعلى ولدها ، وتتبدل قسوة الغيرة رحمة ، ويظهر لها بركة هذه الجارية وولدها ، وأن الله لا يضيع بيتا هذه وابنها منهم ، وليري عباده جبره بعد الكسر ، ولطفه بعد الشدة ، وأن عاقبة صبر " هاجر " وابنها على البعد والوحدة والغربة والتسليم إلى ذبح الولد آلت إلى ما آلت إليه من جعل آثارهما ومواطئ أقدامهما مناسك لعباده المؤمنين ، ومتعبدات لهم إلى يوم القيامة ، وهذه سنته تعالى فيمن يريد رفعه من خلقه أن يمن عليه بعد استضعافه وذله وانكساره . قال تعالى : ( ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ) [ القصص : 5 ] وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم . ولنرجع إلى المقصود من سيرته صلى الله عليه وسلم وهديه وأخلاقه لا خلاف أنه ولد صلى الله عليه وسلم بجوف مكة ، وأن مولده كان عام الفيل ، وكان أمر الفيل تقدمة قدمها الله لنبيه وبيته ، وإلا فأصحاب الفيل كانوا نصارى أهل كتاب ، وكان دينهم خيرا من دين أهل مكة إذ ذاك ؛ لأنهم كانوا عباد أوثان فنصرهم الله على [ ص: 75 ] أهل الكتاب نصرا لا صنع للبشر فيه ، إرهاصا وتقدمة للنبي صلى الله عليه وسلم الذي خرج من مكة ، وتعظيما للبيت الحرام . واختلف في وفاة أبيه عبد الله ، هل توفي ورسول الله صلى الله عليه وسلم حمل ، أو توفي بعد ولادته ؟ على قولين : أصحهما : أنه توفي ورسول الله صلى الله عليه وسلم حمل . والثاني : أنه توفي بعد ولادته بسبعة أشهر . ولا خلاف أن أمه ماتت بين مكة والمدينة " بالأبواء " منصرفها من المدينة من زيارة أخواله ، ولم يستكمل إذ ذاك سبع سنين . وكفله جده عبد المطلب ، وتوفي ولرسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ثمان سنين ، وقيل : ست ، وقيل : عشر ، ثم كفله عمه أبو طالب ، واستمرت كفالته له ، فلما بلغ ثنتي عشرة سنة خرج به عمه إلى الشام ، وقيل : كانت سنه تسع سنين ، وفي هذه الخرجة رآه بحيرى الراهب وأمر عمه ألا يقدم به إلى الشام خوفا عليه من اليهود ، فبعثه عمه مع بعض غلمانه إلى مكة ، ووقع في كتاب الترمذي وغيره أنه بعث معه بلالا ، وهو من الغلط الواضح ، فإن بلالا إذ ذاك لعله لم يكن موجودا ، وإن كان فلم يكن مع عمه ولا مع أبي بكر . وذكر البزار في " مسنده " هذا الحديث ولم يقل : وأرسل معه عمه بلالا ، ولكن قال : رجلا . فلما بلغ خمسا وعشرين سنة خرج إلى الشام في تجارة ، فوصل إلى [ ص: 76 ] " بصرى " ثم رجع فتزوج عقب رجوعه خديجة بنت خويلد ، وقيل تزوجها وله ثلاثون سنة ، وقيل إحدى وعشرون ، وسنها أربعون ، وهي أول امرأة تزوجها ، وأول امرأة ماتت من نسائه ، ولم ينكح عليها غيرها ، وأمره جبريل أن يقرأ عليها السلام من ربها . ثم حبب الله إليه الخلوة والتعبد لربه ، وكان يخلو بـ " غار حراء " يتعبد فيه الليالي ذوات العدد ، وبغضت إليه الأوثان ودين قومه ، فلم يكن شيء أبغض إليه من ذلك . فلما كمل له أربعون ، أشرق عليه نور النبوة وأكرمه الله تعالى برسالته ، وبعثه إلى خلقه واختصه بكرامته ، وجعله أمينه بينه وبين عباده . ولا خلاف أن مبعثه صلى الله عليه وسلم كان يوم الاثنين ، واختلف في شهر المبعث . فقيل : لثمان مضين من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين من عام الفيل ، هذا قول الأكثرين ، وقيل : بل كان ذلك في رمضان ، واحتج هؤلاء بقوله تعالى : ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ) [ البقرة : 185 ] قالوا : أول ما أكرمه الله [ ص: 77 ] تعالى بنبوته أنزل عليه القرآن ، وإلى هذا ذهب جماعة منهم يحيى الصرصري حيث يقول في نونيته : وأتت عليه أربعون فأشرقت شمس النبوة منه في رمضان والأولون قالوا : إنما كان إنزال القرآن في رمضان جملة واحدة في ليلة القدر إلى بيت العزة ، ثم أنزل منجما بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة . وقالت طائفة : أنزل فيه القرآن ، أي في شأنه وتعظيمه وفرض صومه . وقيل : كان ابتداء المبعث في شهر رجب . وكمل الله له من مراتب الوحي مراتب عديدة : إحداها : الرؤيا الصادقة ، وكانت مبدأ وحيه صلى الله عليه وسلم ، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح . الثانية : ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله ، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته ) . [ ص: 78 ] الثالثة : أنه صلى الله عليه وسلم كان يتمثل له الملك رجلا فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول له ، وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحيانا . الرابعة : أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس ، وكان أشده عليه ، فيتلبس به الملك حتى إن جبينه ليتفصد عرقا في اليوم الشديد البرد ، وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض إذا كان راكبها . ولقد جاء الوحي مرة كذلك وفخذه على فخذ [ ص: 79 ] زيد بن ثابت فثقلت عليه حتى كادت ترضها . الخامسة : أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها ، فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه ، وهذا وقع له مرتين كما ذكر الله ذلك في [ النجم : 7 ، 13 ] . السادسة : ما أوحاه الله وهو فوق السماوات ليلة المعراج من فرض الصلاة وغيرها . السابعة : كلام الله له منه إليه بلا واسطة ملك ، كما كلم الله موسى بن عمران ، وهذه المرتبة هي ثابتة لموسى قطعا بنص القرآن ، وثبوتها لنبينا صلى الله عليه وسلم هو في حديث الإسراء . وقد زاد بعضهم مرتبة ثامنة ، وهي تكليم الله له كفاحا من غير حجاب ، وهذا على مذهب من يقول : إنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه تبارك وتعالى ، وهي مسألة خلاف بين السلف والخلف ، وإن كان جمهور الصحابة بل كلهم مع عائشة كما حكاه عثمان بن سعيد الدارمي إجماعا للصحابة . نكتفي بهذا الفصل اليوم وسنكمل متى ماكتب لنا الباريء ان نكمل . آخر تعديل أبو نوآف الجـذع يوم 28-Mar-2012 في 09:47 PM.
|
|||
|
العلامات المرجعية |
يتصفح الموضوع حالياً : 1 (0 عضو و 1 ضيف) | |
|
|