ونتابع معكم هذه القصة ... وكنا قد وصلنا إلى أن عمرو طلب من فارس الشهباء أن يصاحبه ويستفيد من فروسيته وشجاعته ....
فسرنا جميع يومنا وليلتنا حتى جننا الليل ، وذهب شطره .... فوردنا على حيّ من أحياء العرب ... فقال : يا عمرو ، في هذا الحي الموت ... ثم أومأ الى قبة في الحي وقال : في تلك القبة الموت الأحمر ... فإما أن تمسك عليّ فرسي فأنزل ، فآتي بحاجتي ... وإما أن أمسك عليك فرسك ، فتنزل فتأتي بحاجتي ... فقلت : بل انزل أنت ، فأنت أعلم بموضع حاجتك ... فرمى الىّ بعنان فرسه ونزل – فرضيت أن أكون له سائسا يا أمير المؤمنين -.
ثم مضى حتى دخل القبة ... فاستخرج منها جارية ... لم تر عيناي قط مثلها حسنا وجمالا ... فحملها على الناقة ... ثم قال : يا عمرو ، قلت : لبيك ... قال : عليك بزمام الناقة .
وسرنا بين يديه ... وهو خلفنا حتى اصبحنا ... فقال لي : التفت ، فانظر هل ترى أحداً ؟ فالتفت وقلت : أرى جمالاً ... قال : أسرع في المسير ... ثم قال : ياعمرو ... قلت : لبيك ... قال : انظر ، فإن كان القوم قليلا ... فالجلد والقوة والموت .. وإن كانوا كثيرا فليسوا بشيء ... فالتفت ... فقلت : هم أربعة او خمسة ... قال : أسرع في المسير .. فلما سمعنا وقع الخيل ... قال : ياعمرو ... كن على يمين الطريق ... وقف ... وحول وجوه دوابنا إلى الطريق ... ففعلت ... ووقفت عن يمين الراحلة ووقف هو عن يسارها .
ودنا القوم منا ... فإذا هم ثلاثة نفر فيهم شيخ ... فوقفوا عن يسار الطريق ... فقال الشيخ : خلّ عن الجارية يابن أخي ... فقال : ماكنت لأخليها ... ولا لهذا اخذتها ...فقال لأصغر ابنيه : اخرج إليه ... فخرج وهو يجر رمحه ... وحمل عليه الحارث وهو يقول :
من دون ماترجوه خضب الذابل ..... من فارس مستلئم مقاتل
ينمى الى شيبان خير وائل ....... ما كان سيري نحوها بباطل
ثم شد عليه ... فطعنه طعنة دق منها صلبه ... فسقط ميتاً ..
فقال الشيخ لابنه الاخر : اخرج اليه يابني ... فلا خير في الحياة على الذل ... فخرج اليه وأقبل الحارث وهو يقول :
لقد رأيت كيف كانت طعنتي ... والطعن للقرن الشديد همتي
والموت خير من فراق خلتي ... فقتلتي اليوم ولا مذلتي
ثم شد عليه ... فطعنه طعنة سقط منها ميتاً .
فقال له الشيخ : خلّ عن الظعينة يا بن أخي ... فلست كمن رأيت ... قال : ما كنت لأخليها ولا لهذا قصدت ...فقال له الشيخ : اختر يا بن اخي ... فإن شئت طاردتك وان شئت نازلتك ... فاغتنمها الفتى ونزل ... ونزل الشيخ ... وهو يقول :
ما أرتجي بعد فناء عمري ....... سأجعل السنين مثل الشهر
شيخ يحامي دون بيض الخدر .. إنّ استيباح البيض قصم الظهر
فأقبل الحارث وهو يقول :
بعد ارتحالي وطويل سفري .. وقد ظفرت وشفيت صدري
والموت خير من لباس الغدر..... والعار أهديه لحي بكر
ثم دنا ... فقال الشيخ : إن شئت نازلتك فإن بقيت فيك قوة ضربتني .. وإن شئت فاضربني فإن بقيت فيّ قوة ضربتك ...فاغتنمها الفتى وقال : انا ابدؤك ... فرفع الحارث السيف ... فلما نظر الشيخ أنه قد أهوى به الى رأسه ... ضرب بطنه ضربة فقدّ معاه ... ووقعت ضربة الحارث في رأسه ... فسقطا ميتين ...
لإأخذت أربعة أفراس وأربعة أسياف ... ثم أقبلت الى الناقة ... فعقدت أعنة الأفراس بعضها لبعض وجعلت أقودها ... فقالت لي الفتاة : يا عمرو الى اين ولست لي بصاحب ... ولستَ كمن رأيت ... ولو كنت صاحبي لسلكت سبيلهم ... فقلت : اسكتي ... قالت : فإن كنت صادقا فأعطني سيفا ورمحا ... فإن غلبتني فأنا لك ... وإن غلبتك قتلتك .
فقلت لها : ما انا بمعطيك ذلك ... وقد عرفت أصلك وجرأة قومك وشجاعتهم ... فرمت بنفسها عن البعير وهي تقول :
أبعد شيخي وبعد إخوتي ... أطلب عيشاً بعدهم في لذة ؟
هلا تكون قبل ذا منيتي ........
وأهوت الى الرمح ... فكادت تنتزعه من يدي ... فلما رأيت ذلك خفت إن هي ظفرت بي أن تقتلني ... فقتلتها ومضيت ..
فهذا أشد ما رأيته يا أمير المؤمنين ....
وإلى هنا تنتهي قصتنا هذه ولنا عودة إن شاء الله ....