د. محمد يحيى
تغيرت المواقف كثيرًا في دول الجوار العراقي بعد ثلاث سنوات من الغزو الأمريكي والاحتلال المستمر والتلاعب بالأوضاع السياسية الداخلية هناك.
ولعل أوضح تغير هو عند الجانب الإيراني الذي تحول الوضع العراقي بالنسبة له خلال ثلاث سنوات من سيناريو الحالة الأسوأ إلى سيناريو الحالة الأفضل، وإن كان ليس على درجة المميزات التي تصورتها بعض التحليلات.
ويفترض أن الوضع في العراق هو في مصلحة إيران الآن في صراعها ـ المفترض كذلك ـ مع أمريكا حول الملف النووي. ومن اللافت للنظر أن هذا الملف هو الوحيد الآن الذي يمثل نقطة خلاف بين إيران والغرب وعلى رأسه أمريكا. فلم يعد هناك ذكر للخلافات القديمة حول الثورة الإسلامية وتصديرها أو حول الإرهاب وتشجيعه أو خلق المشاكل لأمريكا في الخليج. وفي إطار الملف النووي الوحيد الآن على ساحة الخلاف والحديث حول ضربة غربية أمريكية وربما إسرائيلية ضد إيران يكون لنفوذ إيران الكبير في العراق أهمية كبرى كورقة رابحة لثني الغرب وأمريكا بالذات عن شن مثل هذه الضربة. ذلك لأن هذا النفوذ المعتمد، دليل على تدخلات إيرانية أمنية وعسكرية بل وسكانية مباشرة وغير مباشرة، يشكل ليس فقط رادعًا للأمريكان والغرب، بل ويمثل كذلك درعًا وخط دفاع أمامي يوقف خصوم إيران عند الساحة العراقية ويشغلهم بها قبل أن يدخلوا على الداخل الإيراني.
كما يمثل هذا النفوذ نقطة انطلاق وقوة لإيران ليس إلى العراق وحده فحسب، بل إلى الغرب نحو إيجاد وصلة بسوريا ولبنان ـ حيث حزب الله والنظام الصديق في دمشق ـ، وجنوبًا نحو الخليج والسعودية. ويفتح هذا الوضع أمام إيران آفاقًا من التوسع والسيطرة الإقليمية على فرض أنها بالفعل تسعى لمثل هذا، وإن كان مستبعدًا في ظل قوة النظام الإسلامي الذي لا يسمح للنزعة القومية بالظهور بمثل هذا الجلاء. لكن على أي حال فإن هذه المزايا الإيرانية جرى الحصول عليها بثمن قد لا يبدو كثيرًا لكنه مكلف ألا وهو المخاطرة بسقوط سمعة إيران الإسلامية والثورية في نظر الكثيرين، مع تحول الوضع في العراق إلى حالة طائفية صريحة يجري فيها ذبح وتصفية السنة. ولن ينعكس هذا الوضع معنويًا فقط ضد إيران لكنه يفتح أبوابًا جديدة أمام خصومها الأمريكان والغربيين للتفاهم مع السنة بعد طول العداء. وقد بدأت إيران نفسها بالفعل تشتكي قيام بريطانيا من خلال قواتها في جنوب العراق بمحاولة إثارة القلاقل في منطقة خوزستان ذات الأغلبية العربية في جنوب غرب إيران. وقد يؤدي هذا إلى أن تكون إيران بنفسها هي المسئولة عن إخراج أمريكا من ورطتها في العراق ولو جزئيًا بفتح باب التفاهم مع السنة وهم الآن الفئة الوحيدة في العراق التي تقاوم الاحتلال الأمريكي. ويوصلنا هذا إلى نوع من التوازن ربما بدأت أثاره في الظهور من خلال ما يقال عن مفاوضات أمريكية إيرانية بعيدًا عن الملف النووي للتوصل إلى تفاهم ما حول الأوضاع في العراق في ظل تعثر تشكيل الحكومة العراقية المنتظرة.
وإذا كان الجار الإيراني الذي يعاني من مشاكل خطيرة مع الغرب يمر على عكس المتوقع بحالة من القوة تمكنه من مقاومة التحدي الغربي بندية وكفاءة، فإن حالة الجار التركي الذي لا يعاني من مشاكل في الظاهر تبدو سيئة فيما يتعلق بالملف العراقي، وأسوأ ما فيها هو عدم الوضوح. فعلى سبيل المثال كانت حسابات القضية الكردية بادية عندما حسب الجانب التركي موقفه إلى جانب الغزو الأمريكي رغم الحديث منذ ثلاث سنوات عن حكومة حزب العدالة والتنمية ذات التوجه الإسلامي المزعوم.
لقد عادت القضية الكردية في ذكرى الغزو الثالثة إلى الاشتعال بخطورة أشد. أما الدولة الكردية فتبدو مكرسة الآن في شمال العراق وتتحكم في اختيار رئيس الوزراء العراقي. ولم تدخل تركيا حتى الآن الاتحاد الأوروبي رغم سلسلة التنازلات المختلفة التي قدمتها منذ الغزو الأمريكي وحتى الآن وآخرها البرود تجاه حكومة حماس والحديث عن بديل إسلامي عصري تقدمه تركيا لما يسمى بالإسلام المتطرف الذي تبشر به الحركات الإسلامية في العالم العربي والبادي بأوضح صورة في العراق عند السنة والشيعة على حد سواء. ولا يبدو لتركيا أي موقف واضح مما يجري في العراق الآن وهو أمر غريب بالنسبة لدولة يفترض أنها تسعى أو يسعى لها البعض لكي تكون قوة إقليمية توازن وتنافس إيران. إن تركيا مثلاً لا تستطيع حتى أن تدعي ولو كذبًا أنها قلقة على ما يحدث في العراق لأن علمانيتها تمنعها من ذلك، إضافة إلى مزاعم الحكومة الحالية بأنها تعمل على إيجاد إسلام معتدل لا يقيم وزنًا للاعتبارات السياسية أو الدينية، فوق أنها تسعى بقوة لدخول الاتحاد الأوروبي، ومن شأن الحديث حول القلق على مصير السنة أو أوضاعهم أن يثير هذا الاتحاد ضدها أكثر مما هو مثار الآن مما قد يقضي على احتمالات دخولها للأبد.
ولم تحاول تركيا كذلك الدخول إلى الوضع العراقي من زوايا قد تبدو مقبولة دوليًا مثل المصالح الاقتصادية المادية وعلى رأسها البترول العراقي الذي يمر عبر أراضيها إلى أوروبا وغيرها.
وهكذا تبدو تركيا كدولة للجوار الباهت الذي لا يظهر تحركًا على المستوى السياسي ولا العسكري ولا حتى الاقتصادي. بل لا يبدو على تركيا أي رد فعل ـ واضح مرة أخرى ـ تجاه تحركات غريمتها التاريخية إيران في العراق. لكن هذه المنافسة التاريخية كانت تقوم على الأساس المذهبي، حيث تركيا السنية العثمانية في مواجهة إيران الشيعية الصفوية، بينما تركيا الآن تستبعد وبصرامة كل الاعتبارات الدينية من سياستها. إذن علمانية تركيا وجمودها كمجرد تابعة للغرب في حلف الأطلنطي فضلاً عن طموحها الجارف للانضمام للاتحاد الأوروبي قد أدت كلها إلى إصابة سياستها بالشلل وعدم الوضوح تجاه العراق، على العكس مما يحدث بالنسبة إلى إيران التي أدت مشكلاتها مع الغرب 'بجانب التوجه الديني العلني للدولة' إلى تقوية موقفها ضد الغرب بشكل لم يكن متوقعًا.
ونجد صدى للموقف التركي في الموقف السعودي من الوضع في العراق حيث كان من المتوقع لو جرت الأمور وفق التصورات.... البحتة أن تقف السعودية متحفزة وقلقة من العلو الشيعي الكبير في العراق والذي يترجم نفسه في الحديث اليومي المضاد لما يسمى بالوهابية والإرهاب السني مثلاً. كان يكفي أن يحدث هذا لو أن السعودية كانت كما هي بصورتها النمطية في الصحافة العربية. هذه الصورة كانت تقول: إن السعودية هي حامية المذهب السني وهو ما وضعها لعدة سنوات في معسكر واحد مع صدام إبان الحرب العراقية ـ الإيرانية وما بعدها بقليل. لكن الواقع الآن أن السياسة السعودية كما يبدو بوضوح في وسائل الإعلام المحلية والعربية التابعة لها أصبحت تشاطر ما يقال حول المذهب الوهابي وخطورته والإرهاب السني وبشاعة التطرف الإسلامي وأضراره مع فارق وحيد هو أنها ـ ومن خلال وسائل الإعلام تلك سواء المباشرة أو غير المباشرة ـ أصبحت تزايد على ما يقال حول هذه الأمور سواء من الجانب الرسمي العراقي والعربي أو من الجانب الغربي عامة. ولذلك لم يحدث تعبير عن القلق عن مصير السنة في العراق أو علو النفوذ الإيراني هناك، دون أن يعني ذلك بالطبع أنه لا توجد مخاوف باطنية خفية من هذا النفوذ الإيراني. لكن الحقيقة الغالبة هي أن الخوف مما يسمى بالإرهاب الإسلامي السني بالذات، أصبح هو الآن وتحت مؤثرات خارجية غربية ومؤثرات داخلية تصنف بالإصلاحية أو الحداثية هو العنصر الحاكم في السياسة الإعلامية والعربية والخارجية السعودية إلى حد جذري لم يكن متوقعًا منذ سنوات أو حتى أشهر قليلة. وانعكس هذا على الوضع في العراق بشكل يضاهي ما حدث من الجانب التركي حيث لا نكاد نلمح موقفًا سعوديًا واضحًا من التطورات على الساحة هناك بل نلمح فقط الآن ومن خلال كل المنابر ذلك العداء والخوف والانقلاب الطارئ ضد كل ما هو إسلامي، وهو تحول غلب على مجريات السياسة السعودية بالذات في النواحي الإعلامية وهي نواح لا يكفي تجاهلها لأنها كما في حالة الموات العربي والإسلامي الرسمي الراهن هي أهم ما يمكن أن يصدر الآن عن أية دولة، بل الشيء الوحيد الذي يمكن أن يصدر. والحق يقال إن موقف الجار السعودي الواضح في العراق يعكس حالة الموقف العربي كله من العراق بل ومن مجمل القضايا الخارجية والداخلية في العالم العربي. فتحت ضغط الطرف الغربي الأقوى وهو أمريكا ومعه الأطراف الغربية الأخرى، ثم الطرف العلماني الداخلي الذي وصل إلى أوضاع سيطرة كبيرة في مؤسسات الحكم تحول شأن مكافحة الإرهاب والتطرف ـ كما يسمى ـ إلى القضية الوحيدة على جدول الأعمال الرسمي في تلك البلاد وأصبح هو المعيار الوحيد الذي تقاس به كل المواقف الخارجية والداخلية وكل التطورات. ومن هنا اختفى أي وجود كان يمكن أن يوصف بموقف مستقل واضح مبني على حسابات مفهومة من أية قضية، وليست قضية العراق وأوضاعه استثناءً من هذه الحالة العامة.
ويبقى موقف الجار السوري الذي ينفرد عن المواقف الأخرى بمحاولة ابتزاز أو مساومة لم تكتمل ـ لسبب ضعفه هو ـ من الجانب الأمريكي حول تأييد مقاومة الاحتلال في العراق. فحسب عادة النظام السوري السابق سرعان ما تحولت قضية العراق إلى فرصة لإيجاد قناة اتصال مع الغرب لمجرد إدخاله في حوار مع سوريا يكون جوهره كف أي ضربة غربية قاضية للنظام من خلال الدخول في علاقة مشتركة وراء ستار المحافظة على أوضاع العراق وسوريا كذلك من طغيان تدخل التطرف والإرهاب الإسلامي. لكن تطور الأوضاع في لبنان والدخول الغربي الفرنسي الأمريكي المشترك بقوة هناك أبعد الاهتمام السوري الحيوي عن لعبة المساومة حول العراق وفرض على سوريا الالتفات إلى الغرب على حساب محاولة الاستفادة من أحداث الشرق.
يتبع