(( 2 ))
[ ميراث الحجاج ]
بنى الحجاج واسط، و سير الفتوح لفتح المشرق، أمر بتنقيط المصحف، خطط الدولة، و حفظ أركانها قامعاً كل الفتن.
غير أن الحجاج خلف أيضاً ميراثاً من الظلم و سفك الدماء لم يسبق له مثيل.
كما خلف في قلوب الناس، حتى الأمويين، كرهاً له و حقداً عليه لأفعاله، و منها حرب ابن الزبير و قتله إياه في مكة، و ما فعله في وقعة دير الجماجم.
و حقد عليه الخوارج لعظيم فعله بهم، و الشيعة لعدم احترامه آل البيت، و قالوا فيه الكثير حتى لبسوا سيرته بالخوارق، والأمور المغلوطة، و أمعنوا في تقبيحه، و النيل منه، حتى لقد صوروه شيطاناً.
أمر الخليفة سليمان بن عبد الملك عامله على الطائف بقتل آل أبي عقيل، و هم عشيرة الحجاج الأقربون، ظلماً، لأنهم من آله.
ثم أمر عمر بن عبد العزيز بنفي من بقي منهم و تشريدهم جزاء لأفعال الحجاج، و انتقاماً منه بعد موته.
و لم يُنس الحجاج و أفعاله بسهولة، فقيل أن رجلاً حلف بالطلاق أن الحجاج في النار، فلما أتى امرأته امتنعت عنه، فسأل الحسن البصري أن يفتيه في أمره فقال له: إذا لم يكن الحجاج من أهل النار، فما يضيرك أن تكون مع امرأتك على زنى.
كذلك أمر سليمان بن عبد الملك بذم الحجاج و سبه على المنابر، فذمه كل الولاة إلا خالد بن عبد الله القسري، فأرسل إليه سليمان يأمره بذلك، فتكلم على المنبر و قال: إن إبليس كان من الملائكة ففسق، و كذلك الحجاج.
و بقي ميراث الحجاج حياً إلى الآن، فلا يزال موضع حرب و تطاحن بين المختلفين، و لا تزال الأخبار المختلقة تخالط سيرته، و لا زال يُلعن، و يُسب.
و يراه الباحثون في التاريخ السياسي نموذجاً للطاغية الظالم سفاك الدماء، و يرى المؤرخون في هذا أنه كان يتشبه بـ زياد بن أبيه في حزمه، فأبار و أهلك.
[ مذهبه في الحكم ]
كان الحجاج يرى بتكفير الخارج على السلطان، و طرده من الملة، لذلك كان يرى ما يفعله تقرباً لله يرجو به الأجر. وهذا يفسر ما يظنه البعض تناقضاً في فعل الحجاج في قتل الناس وبين أعمال الخير التي قام بها كالفتوحات وتعظيم القرآن وتنظيم أمور المسلمين.
قيل بعد موته أن رجلاً رفض الصلاة خلف إمام من الخوارج، فقال له أحد أئمة البصرة: إنما تصلي لله ليس له، و إنما كنا نصلي خلف الحروري الأزرقي. قال: و من ذاك؟ قال: الحجاج بن يوسف، فإنك إن خالفته سماك كافراً و أخرجك من الملة، فذاك مذهب الحرورية الأزارقة.
فبينما الخوارج مذهبهم تكفير الحكام، كان مذهب الحجاج هو تكفير من يخالف أمر الحكام. و بالغ الحجاج في شأن الطاعة، و قمع همم الناس، و نفوسهم، و غاياتهم، فوافق الأمويين في أعمالهم، و أذهب بين الناس أن الخلافة اصطفاء من الله، فلا يجوز الخروج على السلطان، و أما من خرج فقد حل دمه، و سُمي كافراً. و شاع مذهب الحجاج في تكفير الخارج على السلطان بعده شيوعاً كبيراً، و كان قد ابتدأ قبله، لكنه ثبته. و ثبت فكرة الإصطفاء، و الحق الإلهي، و بالغ في تعظيم السلطان.
[ الحجاج و أهل العراق و الشام ]
العلاقة بين الحجاج و أهل العراق هي من أكثر العلاقات تعقيداً و طرافة، و من أكثرها ترويعاً في التاريخ الإسلامي، فالحجاج وُلي على العراق كارهاً لأهلها، و هُم له كارهون، و استمرت العلاقة بينهم كزواج كاثوليكي بالإجبار، لا يجوز فيه الطلاق، و لا أمل للفكاك منه إلا بموت أحد الزوجين.
و كان الحجاج دائم السب لأهل العراق في خطبه، فكثيرة خطبه التي يذكر فيها أهل العراق بشكل سيئ، و التي يرى فيها العراقيون إساءة إلى اليوم.
فدائماً كان يذكرهم:
"يا أهل العراق، يا أهل الشقاق و النفاق...." إلى آخر خطبه، و التي يمعن فيها في ذكر صفاتهم:
"فإنكم قد اضجعتم في مراقد الضلالة..." ، و غير ذلك من الخطب الكثيرة فيهم، كراهة منه لهم، و كراهة منه لهم.
و من ذلك أنه لما أراد الحج استخلف ابنه محمد عليهم، و خطب فيهم أنه أوصى ولده بهم بغير وصية الرسول في الأنصار، أن يقبل من محسنهم و يتجاوز عن مسيئهم، فقد أوصاه ألا يقبل من محسنهم، و لا يتجاوز عن مسيئهم، و قال لهم: أعلم أنكم تقولون مقالة لا يمنعكم من إظهارها إلا خوفكم لي، لا أحسن الله لك الصحابة، و أرد عليكم: لا أحسن الله عليكم الخلافة.
و أنهم شمتوا به يوم فُجع بولده محمد، و أخيه محمد في نفس اليوم، فخطب فيهم متوعداً إياهم.
و من ذلك أنه مرض فشاع بين الناس موته، فخرج أهل العراق محتفلين بموته، غير أنه قام من مرضه ليخطب فيهم خطبة قال فيها: "و هل أرجو الخير كله إلا بعد الموت"
أما أهل الشام فكانوا أكثر الناس محبة للحجاج، و أكثرهم نصرة له، و بكاء عليه بعد مماته، و قيل أنهم كانوا يقفون على قبره فيقولون رحم الله أبا محمد.
و كان الحجاج محباً له، دائم الإشادة بخصالهم، و الرفع من مكانتهم، و كان كثير الاستنصار بهم، و معظم جيشه كان منهم، و كان رفيقاً بهم.
[ وصف تاريخي ]
كان الحجاج بن يوسف بليغاً فصيحاً، محباً للشعر كثير الاستشهاد به، تقياً، مُعظماً للقرآن و آياته، كريماً، شجاعاً، و له مقحمات عظام و أخبار مهولة.
إن الحجاج عذاب الله، فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم، ولكن عليكم بالاستكانة والتضرع، فإنه تعالى يقول {ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون}[المؤمنون /76].
الحسن البصري
[ الحجاج في الذاكرة ]
كان للحجاج الكثير من المواقف، و الحكايات الشهيرة، و الأقوال الفصيحة، و الرسائل، و الخطب، و التوقيعات، و له مجموعة أشعار متفرقة. فقصص الحجاج و أخباره كثيرة جداً، و موجودة في كتب التاريخ، ما يدل على عظم نفوذه، و لا زالت أقواله باقية إلى اليوم، و مذهبه في الحكم باق إلى اليوم.
و قيلت فيه الكثير من الأبيات بعد موته، و التي تذمه، كما قيل في حياته. كما دخل الحجاج في القصص الشعبي، و المخيلة الشعبية، فظهر جشعاً طماعاً خاطف نساء في حكايات ألف ليلة و ليلة، كما صورته المخيلة الشعبية بصور بشعة.
[ المراجع ]
^ ابن عبد ربه. العقد الفريد.
^ ابن عبد ربه. العقد الفريد. ووردت الخطبة، بمضمونها، وباختلافات يسيرة في النص في مراجع كثيرة.
^ تهذيب تاريخ دمشق (4|68).
^ محاضرات الأدباء (4|495).
^ تاريخ دمشق (4|82).
^ البداية والنهاية (9|138).
^ الطبقات لابن سعد (7/164) بإسناد صحيح.
البداية و النهاية – ابن كثير
مروج الذهب – المسعودي
تاريخ الخلفاء – السيوطي
العقد الفريد – ابن عبد ربه
دائرة المعارف الإسلامية
الحجاج بن يوسف الثقفي المفترى عليه للدكتور : محمود زيادة.
الحجاج بن يوسف الثقفي للدكتور إحسان صدقي العمد.
(( 2 ))
منقول من منتديات ثقيف